“بيت أكثر دفئا”.. كيف يبني الفنانون بيوتهم من الداخل؟
“بيت أكثر دفئا”.. كيف يبني الفنانون بيوتهم من الداخل؟
منذ عدة قرون، ومع بداية الثورة الصناعية، بدأ عالمنا يتغير كثيرا. من القرى الصغيرة التي يعرف كل من فيها بعضهم بعضا، إلى المدن الكبيرة التي يعيش فيها الإنسان سنوات طويلة دون حتى أن يعرف من هم جيرانه. تبدلت الألفة والحميمية التي يتسم بها الريف إلى عدائية المدينة التي لا تعبأ بالإنسان. وحلت المجمعات التجارية والفنادق والبنوك من حيث الأهمية والفخامة في المدن، محل المباني الدينية التي تعد هي الأبرز في القرية. وسيطرت المباني الاستثمارية في المدن ولم يعد سهلا أن يبني الإنسان بيته كما يحب ويحلم، فالبنايات السكنية متعددة الطوابق ومتعددة الشقق فرضت نفسها على الناس. مما جعل فكرة العودة إلى حياة الريف، الذي ما زال يغلب على عمارته الطابع الإنساني، حلما يراود الكثيرين.
لقد أصبح المكان الوحيد الذي يمكن لإنسان هذا العصر أن يشعر فيه بالألفة والراحة هو مسكنه، يقول صلاح كامل: “المسكن ليس مكانا للنوم والأكل فقط، أو مصنعا يزاول فيه الناس عملية الإقامة كما يقول البعض، وهو أيضا ليس مظهرا من مظاهر المباهاة أمام الغير، بل هو في حقيقته منفذ لإنسان العصر الحديث يمكن من خلاله أن يزيل كل الضغوط النفسية والعصبية التي يقع تحت تأثيرها في حياته اليومية”. فهو يرى أن الكثير من المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها الناس تعود إلى مشكلة المسكن، فالكثير من الناس الآن يعيشون سنوات طويلة، ربما عمرهم كاملا، دون أن يكون لديهم مسكن خاص بهم، والكثيرون ممن يحصلون على هذا المسكن لا يشعرون فيه بالراحة ويهربون منه للأماكن العامة.
وكما أن للبيت وظيفة مادية فهو أيضا له وظيفة تذكارية. إن كل قطعة أثاث في البيت، شعرنا بالرغبة في شرائها، تتجاوز عندئذ وظيفتها المادية وتصبح جزءا من ذاكرتنا وهويتنا، فكل تصميم يحمل رسالة خاصة تؤكد قيما معينة نشعر بالانجذاب إليها لأننا نفتقدها في الحياة اليومية، أو ربما تمنحنا تأكيدا على قيم هي موجودة بالفعل لكن وجودها ضعيف وبحاجة إلى دعم، وامتلاك قطعة أثاث مفضلة لدينا يؤكد هذه القيم. إن أصغر الأشياء في منازلنا تهمس لنا باستمرار، وتقدم لنا بعض الدعم والمواساة، وتذكرنا بطريقة غريبة بالشخص الذي نكونه حقا. ففي ألفة البيت نستطيع أن نحتفظ بكل ما يذكرنا بقيمنا الروحية التي تضيع منا في زحام الحياة في الخارج.
كل قطعة أثاث نقوم باختيارها من بين آلاف البدائل تعكس أولوياتنا، على سبيل المثال، أي كرسي سوف نقتنيه سيقوم بالأداء الوظيفي نفسه، لكن التصاميم المختلفة لهذا الكرسي قد تعبر عن رؤى مختلفة تماما للحياة. إن الكراسي التي صممها معماري القرن العشرين السويسري “لوكوربوزيه” تجسد قيم التطلع إلى المستقبل والتخلي عن المحلي وطغيان الروح العالمية، ونبذ الحنين إلى الماضي، وتقديس التفكير المنطقي العقلاني. أما إذا كان الكرسي من تصميم فنان القرن التاسع عشر الإنجليزي “ويليام موريس” سنجده يعكس جمال التقاليد المحلية، وأفضلية عالم ما قبل الثورة الصناعية، وجاذبية الصبر والحياة البطيئة وعراقة التراث. ربما لا يمكننا أن ندرك بشكل مباشر وواعٍ هذه الرسائل أثناء الاختيار، لكن تحت عتبة الوعي غالبا نستجيب إلى القيم التي تمثلها هذه التصاميم.
الفنان ينظر بعين الحب
إن لوحات المشاهد الداخلية للبيوت واحد من الموضوعات التي تناولها الفنانون كثيرا ولاقت شعبية كبيرة لدى الناس. كذلك انتشرت الصور الفوتوغرافية التي تصور المنازل الجميلة من الداخل ويتابعها الناس لكي يستلهموا منها أفكارا لبيوتهم. وهناك الآن الكثير من المجلات والمواقع الإلكترونية التي تقدم عن طريق الصور الفوتوغرافية أفكارا جديدة للعمارة الداخلية والديكور. لكن هل نستلهم أفكارا لتأثيث بيتنا من اللوحات أم من الصور الفوتوغرافية؟ إذا كان من الممكن طرح هذا السؤال على الناقد الإنجليزي جون راسكن (1819- 1900) غالبا كان سيجيب بأن الصور الفوتوغرافية جيدة لكن اللوحات تُخلق بشكل مختلف.
يرى راسكن أن الصور الفوتوغرافية كثيرا ما تعمينا عن رؤية جمال ما يحيط بنا، فهي تُلتقط بسرعة وبساطة، فلا يكون هناك الكثير من الوقت للتدقيق والتأمل فيما نلتقطه. بينما اللوحات المرسومة تأخذ وقتا وجهدا كبيرين، وهي فرصة مستمرة لتأمل كل عنصر يقرر الرسام إضافته إلى اللوحة على حدة. إن كل لمسة فرشاة على القماش هي بحث في أسباب الجمال ومحاولة لإبراز رقة التفاصيل الصغيرة. بالتالي فإن اللوحات تصور حقيقة ما يهتم به الفنان، أولوياته ومشاعره، وقيمه، فكل تفصيلة في اللوحة لها معنى. بينما الصور الفوتوغرافية تلتقط المشهد كاملا في ضغطة واحدة تظهر بها الكثير من التفاصيل التي يكون هدفها غالبا تأكيد قيمة الكمالية التي تنبذ طبيعة النقص الإنساني. كما أن الصور الفوتوغرافية للتصميم الداخلي غالبا ما يكون لها هدف تجاري، خصوصا تلك الصور المبالغ في جمالها والمنتشرة في المجلات والمواقع، لكن اللوحات الفنية تهتم بالترويج ليس لمنتج إنما لقيمة روحية ومعنوية .
تصور اللوحات الفنية البيت جميلا وبسيطا، ويحمل الطابع الشخصي للفنان، ليس مثاليا، كما لا يسير وفق قواعد صارمة من التنظيم المبالغ فيه، فلن تشعر عندما تنظر إلى اللوحات أن هذا البيت ليس حقيقيا، أو لا يمكن أن يكون بيتك، بل على العكس ربما تشعرك اللوحة بالحنين لبيتك أو الحلم ببيت قديم سكنته في الماضي. لكن الصور التجارية تعرض لنا نماذج من الصعب على أغلب الناس محاكاتها، فهي باذخة الثراء، كما أنها تلتزم بشكل صارم بقواعد التصميم الداخلي، فتظهر مثالية بلا نقص لدرجة تنتزع الإحساس بالراحة وتشعرك أن من الصعب أن يسكن هذا المكان أشخاص يعيشون كل يوم ويمارسون حياتهم ويتركون فناجين القهوة نصف الممتلئة على الطاولة، ويبعثرون أحيانا أغراضهم على الكراسي والأرائك.
من السهل على الفنان أن يرسم لوحة تحاكي الصور الفوتوغرافية التي تبدو مثالية، لكن عمل الفنان انتقائي جدا، إن كل تفصيلة في اللوحة هي غالبا إجابة عن عدة أسئلة يطرحها الفنان أثناء الرسم، منها: ما الذي أحاول إيصاله للمشاهد؟ ما الهدف؟ عندما يكون الهدف جوهريا لن تكون جميع التفاصيل بمستوى الأهمية نفسه، والبلاغة هنا تستوجب الاهتمام بالتفاصيل ذات الدلالة، فالفنان يتساءل دائما ما الذي تعنيه هذه التفاصيل للمشاهد .
مارسيل ريدر، الحالمة أمام المدفأة، معظم اللوحات يظهر بها عنصر بشري، لكن الصور الفوتوغرافية لا يظهر فيها أحد
تعد لوحة مارسيل ريدر “الحالمة أمام الموقد” نموذجا واضحا لرؤية الفنان في مقابل الصور التي تلتقطها الكاميرا لأعمال مصممي الديكور المحترفين. يصور الفنان فتاة تجلس بجوار المدفأة في حجرة ينيرها ضوء حميمي خافت مصدره مصباح جانبي مع ضوء النار المشتعلة في المدفأة. من النظرة الأولى للغرفة نشعر بدفء وحميمية هذا المكان، وبجماله الهادئ البسيط على الرغم من أن ريدر لم يلتزم بصورة الأثاث المثالي الباذخ. استخدم الفنان طاولات كبيرة ومرتفعة أمام الأريكة وعلى جانبها، وهي طاولات تستخدم للطعام وليست طاولات القهوة الجانبية القصيرة المناسبة للمكان بحسب توصيات مهندسي التصميم الداخلي. كذلك تبدو الستارة بسيطة جدا رغم أن الستائر من أكثر الأشياء التي تعكس الفخامة، لكن الفنان لم يهتم كثيرا بهذه التفاصيل، وركز على إبراز الأجواء الحالمة التي يريد من خلال مصادر الإضاءة في اللوحة، الأباجورة ونار المدفأة، فخرجت اللوحة كأنها قصيدة في شاعرية الضوء.
“إن رسم صورة مبالغ في جمالها للبيت تلغي ألفته“
غاستون باشلار
الضوء والنور.. كيف تخلق أجواء مختلفة؟
يذكرنا الفنانون أنه عوضا عن تلك الأضواء والأنوار التي نتعرض لها خارج البيت دون اختيارنا، فإننا في البيت يمكننا أن نختار نوع الإنارة المناسب بحسب النشاط الذي نود الانخراط فيه. إن ضوء الكهرباء الأبيض الساطع محدد وواضح، يجعل كل ما حولك ظاهرا ونشيطا، هو أشبه بضوء الشمس القوي، يساعد هذا التأثير على خلق أجواء مناسبة لأوقات العمل أو تلك التي تحتاج إلى التركيز. بينما النور الأصفر الخافت الذي يشبه نور القمر، يخلق أجواء هادئة وحميمية مناسبة لجلسة سمر مسائية مع الأحبة والأصدقاء، أو وقت نقرر أن نقضيه في عزلة تأملية أو حتى عندما نكون في حاجة إلى بعض الاسترخاء. ويعد مارسيل ريدر واحدا من أكثر الفنانين الذين اهتموا برسم نور المصابيح الداخلية التي تضفي أجواء دافئة وحميمية.
في لوحته “ليلة هادئة في نور القمر” يصور ريدر مشهدا خارجيا في حديقة البيت التي يبدو أنها تطل على النهر. يتوارى نور القمر خلف فروع الأشجار الكثيفة، لكنه ينعكس على صفحة الماء بخفة، وبالرغم من أن اللوحة تحمل اسم نور القمر، فإن أكثر عناصر اللوحة وضوحا وجذبا للانتباه هو نور المصباح الأصفر على الطاولة. إن نور القمر يثير فينا الكثير من الخيال الخلاق والإلهام، لكنه عندما يتوارى نكون بحاجة إلى مصدر ضوء آخر مشابه يؤكد وجوده، وهذا ما يفعله المصباح الجانبي في هذه اللوحة. إنها حقا ليلة هادئة، فتاتان تجلسان إحداهما تقرأ والأخرى تتأمل انعكاس القمر على ماء النهر. لا يمكننا تخيل ليلة أكثر هدوءا.
“أجمل اختبار للضوء أن تحدق فيه، إذا استطعت كان مريحا، وإن لم تستطع كان أقوى من قدراتك“
أحمد بهجت، تأملات في عذوبة الكون
تذكرنا أعمال الفنانين أيضا بأنواع مختلفة من الإضاءة غير المعتمدة على الكهرباء، وهي إضاءة الشموع وكذلك المدافئ التي تشتعل بالخشب والفحم، والتي يختلف تأُثيرها عن إضاءة الكهرباء. في كتابه “تأملات في عذوبة الكون” يكتب أحمد بهجت: “إن أنوار الشموع أو قناديل الزيت تبرز لك الأشياء بالتدريج وبظلال تجعل للأشياء أكثر من امتداد، وأكثر من عمق، وهكذا ترسم الإضاءة بالشموع المكان لك بالتدريج فتراه وهو يتخلق خارجا من رحم الظلمة، إلى نور الحياة الجميل المهتز.. ولأن الناس كانوا قديما يتعاملون في نور الشموع والمصابيح الزيتية، كانوا أكثر رقة في الملامح وعذوبة في الوجوه”.
يستدعي لهب الشمعة أحلام الذاكرة ويعيد إلينا مواقف وسهرات بعيدة، فيجعلنا أقل شعورا بالوحدة. إننا ننتظر من البيت أن يوفر لنا نوعا من العزلة الاختيارية كلما كنا في حاجة إلى ذلك، لكننا لا نود مع ذلك أن نشعر بالوحدة، يقول لشتنبرغ: “إن الإنسان بحاجة إلى الصحبة، حتى إنه وهو حالم بعزلته يشعر بوحدته أقل أمام الشمعة المضاءة”. في لوحته “امرأة تقرأ على نور الشمعة” يلخص كارل هولسو مقولة لشتنبرغ، إذ نرى المرأة تنظر نحو الشمعة وكأنها في حديث صامت مع نفسها أو مع الشمعة، تمسك بيديها كتابا أو رسالة، لكن ذهنها شارد بعيدا، يبدو أنها توقفت عن القراءة الآن واستسلمت لأحلام اليقظة والخيال الذي يغذيه لهب الشمعة.
“في دفء الموقد العظيم يفرح الزمن ويطير“
لهب شمعة، باشلار
الستائر.. جسور ناعمة
يستعير البيت جزءا من الفضاء ويقتطعه ليكون مساحة خاصة، لكنه لا يغلقها تماما، يفتح بينه وبين ذلك الفضاء جسورا هي الأبواب والنوافذ، لكن هذه الجسور كما أنها تجعلنا متصلين بالفضاء في الخارج فهي لا تحمينا من عنفه، هنا تأتي الستائر لتمنع دخول جزء من العنف الفضائي الذي يتمثل في حرارة الجو أو برودته، وقوة الشمس والضوء وكذلك الرياح والبرق والرعد. كما أن علاقة البيت بالستائر علاقة مصاهرة ووجود، إذ لا يمكن للبيت أن يكون عاريا، فالستائر تحفظ أسرار البيت عن الغرباء في الخارج، لكنها تعطي الغريب إشارة بأن ثمة إنسانا يحيا في هذا المكان، وإذا أردت أن تدخل عليك أن تطلب الإذن أولا.(12) كذلك كان بودلير يحلم بالستائر التي تحمي البيت من البرد في الشتاء، وكان يعشق الستائر الداكنة التي تنسدل على الأرض، يقول: “خلف الستائر الداكنة يبدو الثلج أكثر بياضا. والحق أن الحياة تنبعث في كل الأشياء عندما تتجمع التناقضات”.
إن معظم اللوحات التي صورت مشاهد داخلية للبيوت كانت الستائر جزءا رئيسيا في تكوينها. أما الستائر في لوحة البولندي “ليون فيكولكوسكي” فهي أكثر ما تكون في تفاعلها مع العالم الخارجي، فالستائر في هذه اللوحة شفافة وليست داكنة، رسمها الفنان لتسمح بدخول الضوء وكذلك الرؤية من الخارج، لكننا من النظرة الأولى سنكتشف أن النافذة تطل على حديقة أو مساحة مزروعة في الطبيعة وغالبا لن يمر هنا أحد ليكشف أسرار الداخل، فلا يوجد حاجة إذن إلى حجب الرؤية عن الخارج. صوّر الفنان الستارة تطير بفعل الرياح الخارجية، لكنها بالرغم من استسلامها للرياح فإنها بطلة المشهد. فهي بالرغم من مرور الضوء والرياح خلالها فإنها ما زالت تمنحنا ذلك الشعور بخصوصية الغرفة التي نحن بإزائها.
هل أركان المنزل دافئة ومضيئة؟
لأن الفن هو تعبير قبل كل شيء عن مشاعر الفنان، سنجده يسقط هذه المشاعر على اللوحة عندما يصور ركنا من أركان البيت. إن المشاهد التي تصور شخصا ينطوي على نفسه في ركن الغرفة، أو تلك التي تصور شخصا مستغرقا في عمل ما في أحد الأركان لا يمكنها أن تكون محايدة عند رسم هذا الركن. إن كل ركن في البيت وكل زاوية تعودنا الاختباء فيها هي رمز للعزلة في خيالنا وذاكرتنا، تلك التي يوفرها لنا البيت. فالركن هو بذرة الحجرة والبيت، يقول باشلار: “الركن ابتداء، يحقق لنا أمرا نقدره كثيرا، السكون… إن وعي كوننا في حالة سلام، في ركننا، يولد إحساسا بالسكونية. إن حجرة خيالية ترتفع وتحيط بأجسادنا، التي تعتقد أنها مخفية بشكل جيد، حين نأوي إلى ركننا. وبهذا تصبح الظلال جدرانا، وقطع الأثاث حاجزا، والملابس المعلقة سقفا”.
في لوحته “ركن دافئ” يختصر هولسو صورة ذلك الركن المضاء الصامت الذي يمنحنا بعض العزلة والسكينة. كل عنصر في هذا الركن يصدر إشعاعا حميميا؛ السجادة الصغيرة على الأرض بألوانها الدافئة، وكذلك ضوء المصباح الأصفر الخافت، واللوحات المعلقة على الجدران، والتي يظهر أنها تصور أشخاصا قد يكونون أفرادا من العائلة. هذا الركن إذًا محمل بالذكريات أيضا. كذلك فجدران الركن ليست صماء، تلك المستطيلات والخطوط الذي تعمد الفنان ألا يجعلها حادة، تشير إلى مرور الزمن، يبدو أنها قديمة، يمكننا حتى أن نتخيل أن أجزاء منها تقشرت. كما تمنح الخزنة الصغيرة بأدراجها المغلقة عمقا لهذا المشهد، فهذه الأدراج تحمل الكثير من التفاصيل والأسرار التي لا يمكننا الاطلاع عليها. ويكفي ما تظهره هذه الخزانة على سطحها من الشمعة وتمثال الملاك الصغير الطائر والمصباح لكي تثير فينا خيالات العزلة التي ندفن فيها أسرارنا.
جاليري اللوحات.. ذكرياتنا معلقة
تتجلى الوظيفة التذكارية للبيت في الجدران التي نعلق عليها ذكرياتنا وتلك الأشياء التي تعني لنا شيئا. لا تخلو لوحة فنية لمنظر داخلي من جدار يحمل ذكرى في شكل صورة لأحد الأشخاص أو قطعة فنية اقتناها صاحب البيت في أحد أسفاره، أو حتى مرآة عتيقة تمنح ذلك الجدار عمقا. فمثلا نحن لا يمكننا تخيل لوحة “نيلز هولسو” التي تصور مشهدا داخليا لامرأة تحيك دون تلك الصور واللوحات المعلقة على الجدار خلف المرأة. المرأة منخرطة في الحياكة في سكينة وصمت تحت ضوء المصباح الهادئ، لكن يبدو أن الذكريات التي علقتها على الجدار تشعرها بالطمأنينة. تلك الصور تختصر ما يهمنا من العالم الخارجي، ما نود أن نتذكره عندما نكون محميين داخل ملاذنا.
النباتات والزهور.. روح البيت
ما زال البيت جامدا وميتا إلى أن نضيف إليه بعض النباتات الخضراء والأزهار. تنعش النباتات البيت، كما يعمل اللون الأخضر على التهدئة والاسترخاء ويمنح المساحة التي يوجد بها إحساسا بالتوازن. وتنشر الأزهار في البيت ذلك الشعور بالانسجام الذي تتصف به النباتات في الطبيعة، فكل الألوان التي تنتمي إلى الطبيعة متوازنة ومنسجمة. يعرف الفنانون هذا جيدا، لذلك اهتموا برسم النباتات كثيرا في المشاهد الداخلية للبيوت. وتعتبر النباتات والأزهار في لوحة مشهد داخلي للدنماركي “بول غوستاف فيشر” هي البطل الرئيسي للمشهد. نشعر عندما ننظر إلى هذه اللوحة بأن كل ما فيها طازج، اعتمد الفنان على الضوء الطبيعي لإبراز تأثير تلك النباتات المنتشرة في أرجاء اللوحة، لكن خفف حدته عن طريق الستائر البيضاء الشفافة، التي تمرر الضوء لكن بعد أن تهذبه ليكون أكثر لطفا ورقة. المكان في وجود هذه النباتات المتنوعة ينبض بالحياة والحيوية.
إننا عندما نفتح أعيننا وقلوبنا على البيت، سنجده كونا كبيرا بحد ذاته، يحمل تاريخنا الخاص وذكرياتنا التي لا يهتم بها العالم الخارجي. إننا من خلاله، وكما يقول ياسين النصير، ندرك ما للأشياء من قيمة كبرى، “حكايات مواقد الشتاء خلف ستارة، قصص الحب وألوان الكراسي ودفء الأرائك، وثمة قط يرقد بالقرب من مدفأة يرقب حكايات النساء، في ليلنا المقمر والممطر والمترب معا.. إن في البيوت صورا أخرى للمجتمع، إذ إنها تغذي الروح التي تتشكل يوميا من خلال شعرية الممارسة الحياتية. إن هذا الكون الصغير نؤثثه بالعواطف وننسجه بالرغبات ونزرعه بالأمنيات ونولد فيه مرارا. وعندما تكون بيوتنا من السعة الروحية لعالم نتشكل فيه لا نرغب مغادرته، تكون الحياة فيه واحدة من المفردات التي تؤنس كل أفعالنا”، لهذا لا يوجد معلم أفضل من الفن يستطيع أن يعلمنا كيف نبني بيوتنا لتكون ملاذا مرحبا ودافئا.
You must be logged in to post a comment.