تأثير اللوحات.. هكذا ينمي الفن مشاعرنا تجاه الجمال
يتعاقب الزمن والساعة الرملية التي تحسب وجودنا في الحياة لم تفرغ بعد، ما زال الإنسان يخلق أشياء تساعده على السيطرة وتحقيق الذات. الإنسان ابن الطبيعة هُذِّبت حواسه بفضلها، تبصر عيناه فطرة الحياة فيغمره الشعور بالجمال، يدركه على سجيته ويتتبّع أثره ليفهمه، فتحوّل الجمال عنده إلى قيمة مطلقة يسعى إليها لذاتها، كما يسعى إلى قيمة الخير والحق وهما العمائد الرئيسة للفلسفة. لم يتوقف الإنسان يوما عن السير في دروب الحياة ليستكشفها، لكنه في خضم السير بنى لنفسه جسورا وبيوتا أضحت حائلا بينه وبين الطبيعة البكر التي تقاسم معها منذ بدء الخلقية فراش الحياة، لم يعد بالإمكان الاتصال بينهما كما السابق، يسعى الإنسان إلى السرعة لالتهام المعرفة والحياة، وصمت الطبيعة لم يعد يناسب حماسه المشتعل كالنار، يأخذ منها ما يشاء ثم يدير لها ظهره، تحول ابن الطبيعة إلى عدوها وأسدل بيده من سقف العالم ستائر جعلت الجمال شحيحا والقبح معتادا . لكنه كلما رأى لوحة فنية للطبيعة أو استمع إلى موسيقى رائقة يتنهد ويغمره شعور بالاشتياق إلى شيء ما.
“الفن مهم لأنه جزء من القصة التي نرويها عن أنفسنا“
(ستيفن جامبارديلا)
ما الفن؟ ما الجمال؟
لم يكن الفن غريبا عن فطرة الإنسان، لكنه بات موصوما بالغرابة منذ عصر النهضة الأوروبية الحديثة حيث التقدم العلمي والصناعي الذي جعل الفرد والمجتمع قلقين بشأن “الفائدة”، ما فائدة الفن؟ هل تستطيع لوحة فنية بناء خط سكة حديد؟ هل يمكن لقصيدة أن تخبز لنا الخبز؟ أو لمعزوفة موسيقية أن تُطعم الفقراء؟ أضحى الفن في نظر الكثيرين رفاهية لا تُدِر النفع وتغذي روح الخمول والبطالة. زاد غضب الفنانين وباتوا مجبورين على الدفاع وإعطاء إجابة لأهداف الفن، “الفن غاية في ذاته، الفن خُلق فقط من أجل الفن”. لكن ما لم يدركه الفرد حقا في خضم حياته العملية الطاحنة أنه يرنو إلى ما هو أبعد من الفائدة، وإذا كان يفتش عن حياة كريمة فلن يحتاج فقط إلى المصابيح الكهربائية وخطوط الهاتف وغيرها من ميسرات الحياة، بل يحتاج أيضا إلى ما يعزّي أحزانه ويمنحه التوازن ويثري تجربته الباطنية، ما يعطيه أملا جديدا ومقدمة لآفاق أوسع، وكلها أمور لم يكن يدرك كُنهها بغير بالفن.
“ينبغي أن نعي تماما أنه بدون القصص والقصائد والفنون والموسيقى سيتضور الأطفال جوعا“
( الروائي البريطاني فيليب بولمان)
يُعيد الفيلسوف آلان دو بوتون النظر إلى جذور الفن في أرض الإنسانية، يذكّرنا بأن الفن جزء من سلوكياتنا ولا ينفصل عنّا بحال، ولا صحة هنا في غربته وانفصاله عن الواقع، وأن الأعمال الفنية من روايات وأشعار ولوحات وسينما وموسيقى هي وسائل نسجها الإنسان لتفسر لنا وضعنا الإنساني وتساعدنا على فهم العالم بطرق أصدق وأكثر ذكاء. لا يقف الفن عند حدود النفس، بل يساعدنا على اتساع رؤيتنا، وتحفيز بصيرة الناظر ليرى الجمال من حوله ويدركه عبر الضحك وعبر الألم . لكن هل إدراك الفن باعتباره تجليا للجمال أمر يسير كما نظن؟
اللذة والفن
لا ينظر الرسام إلى نبع الماء المتدفق من حضن الجبل كما ينظر له الرجل العطشان، والمرأة الجميلة في لوحة لن تكون في عيون كل الرجال مجرد جسد مشتهى، وهو ما ينفي ضرورة أن يداعب الفن غرائزنا. ما يخبرنا به جورج سانتينا في فلسفته لعلم الجمال أن هناك فارقا بين اللذة أو الشهوة وبين الإحساس بالجمال يكمن في أن الجمال تهدأ معه انفعالاتنا الحسية ونسمو به على ذواتنا فنجرد بذلك شعورنا بالجمال من أي مصلحة بعكس شهواتنا[7]، فمثلا مشاهدة لوحة فنية لا تجعلنا نشعر بالأنانية ولا تُرضي غرورنا أو تروضه، بل تأخذنا إلى أبعد نقطة بداخلنا يأسرها الجمال بالفطرة وتنتزع فيها كل ملذاتنا وشهواتنا البشرية. يطرح الباحث هانك جرين نظرته فيما يجعل من أي شيء فنًّا هو المقدار الذي يطبعه من شعور بالجمال في نفس المتلقي بغض النظر عن المقصد من وراء صنع هذا الشيء[8]؛ عندما نقطع الأميال وننفق الأموال لنذهب إلى حفلة موسيقية أو لنشاهد أحد عروض البالية لا تقودنا عواطفنا الإنسانية إلى تلقي الفن، بل إن مناشدة الجمال وهو محركنا الأسمى للسير خلفه، أما عواطفنا فتأتي في مرحلة لاحقة لتلقي هذا الفن.
قد يعجب الواحد منا لوحة ما، لكنها لن تُحدِث التأثير نفسه في الآخرين بالضرورة، هذا لا ينفي عنها جمالياتها لكنه -كما يوضح الروائي الروسي ليو تولستوي- ينبهنا إلى أن جماليات الفن لا يجوز حصرها في كونها ما يحوز إعجابنا فحسب، بل علينا تفحص ذلك الفن في ذاته، في ارتباطه بأسبابه ونتائجه، وليس فقط في المتعة التي نتلقاها من ذلك الفن.
“لكي نصل إلى تحديد دقيق للفن، يجب علينا أولا أن نكف عن النظر إليه بصفته وسيلة للمتعة، وأن ننظر إليه باعتباره شرطا من شروط الحياة الإنسانية. إن هذه الرؤية للفن ستجعلنا ندرك أن الفن هو إحدى وسائل الاتصال بين الناس“
(ليو تولستوي)
يبدو الحديث عن الشعور بالجمال الذي يبثه فينا الفن أشبه بملامسة السحاب، كيف نفسر وقع موسيقى شوبان في صمت مدن غارقة في العزلة والوحدة؟ وكيف تهبنا قصيدة لمحمود درويش أجنحة لنطير بعيدا أو نسرح في فضاءات لا نهائية؟
لا يمر القبح من هنا
يتفاعل المئات يوميا مع كل لوحة جديدة يرسمها الفنان التشكيلي السوري “مجد كردية” وينشرها عبر مواقع التواصل، يتخيل القلب غيمة، والحبيب سمكة، والمحبوب محيط أزرق لا نهائي، يقول: “أنا من أفلت العالم وتمسّك بوردة”. منذ شهور كنت في طريقي إلى واحد من معارضه الفنية، كانت المدينة تزداد صخبا وازدحاما، وبمجرد دخولي أرض القاعة ابتلعني الصمت والدفء، شعور لا يوصف كأن قبح العالم توقف هنيهة لتستقبلني لوحاته في مركب يسبح في فضاء من الألوان. حاور “ميدان” “مجد كردية”، سألناه عن طاقة المحبة التي يزرعها في لوحاته، وكيف لفنه أن يواجه قبح الواقع؟ لم يفكر كثيرا، قال: “الفن بكل فروعه هو مهذب الروح الإنسانية، وهو أيضا المكابح التي تخفف من سرعة سقوطنا في حفر التوحش. الإنسان الذي تمت تنشئته على حب الفنون وتذوقها لا يتقبل القبح، مثلا لا يرمي الأوساخ في الشارع، القبح هنا حالة سلوكية ولا يُقصد به عدم تقبل اختلافات الأشكال البشرية”. يرسم كردية في لوحاته أجنحة تجعل الطيران ممكنا، الأفيال تسبح، والورود تتراقص فوق صفحات المياه، وهذه هي الصورة التي يرى الواقع عليها، يستطرد في حديثه ويقول: “الفن جزء من الواقع، وهو الجزء الحي الذي ينبض ويعطي البشرية أجنحة الخيال لتخترع وتتطور”.
مقولة مجد كردية الأخيرة تعيدنا من جديد إلى التفكير في موقع الفن من واقعنا اليومي وموقفنا تجاهه، كيف نستخدم الفن؟ كيف نراه في تفاصيل الواقع؟ قبل البحث عن إجابة علينا أن نتحرر من حصر الفن في المتاحف ودُور الأوبرا وغيرها من أماكن مغلقة لا يطأها الكثيرون، على الفن أن يكون جزءا من استخدامنا ومربوطا بوعينا، عندما نعلق لوحة على الحائط نفكر في المطرقة، وعندما نشتري أغراضنا من المحال التجارية نفكر في المال، لكن متى نحتاج إلى الفن؟ وفيمَ نفكر عندما نبحث عن الفن؟ وهل يجد حيزا من رغباتنا اليومية؟
الفن روتين يومي
“بالنسبة لي لم تعد ممارسة الفن بحاجة إلى طقوس، إنه عمل يجب أن يُنجز، جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، لو انتظرت الطقوس أو المزاج أو الحالة لن أمارس الفن أبدا. إنه جزء من ضفيرة الحياة“
(سارة عابدين)
في حديث تولستوي عن ماهية الفن يصفه بأنه “عدوى المشاعر”، استطاع الإنسان أن ينقل عبر الفن مشاعره من سرور ومعاناة وتأمل وغضب، بالكلمات والألوان والألحان، لتسبح هذه المشاعر في دوامة سرمدية تنقل مشاعره وأفكاره لتتماس مع المتلقي في كل زمان ومكان، ولولا قدرتنا على التعبير عن مشاعرنا لأصبحنا همجا ووحوشا. يتحرر تولستوي من وضع الفن في قوالبه المعتادة، يقول إن الفن يكمن أيضا في تفاصيلنا اليومية، ديكور البيوت وزينة الملابس فن، الخياطة فن، حتى إن الطقوس الدينية والصلوات هي في ذاتها فن.
حاور “ميدان” الشاعرة والفنانة التشكيلية “سارة عابدين”، حاولنا مراقبة يومها وترجمة مفهوم الفن في قاموسها اليومي، تقول سارة: “أرى الفن حولي في كل تفاصيل الحياة، لا أجنّبه فقط بداخل المتاحف أو قاعات العرض، أجده في الأثاث والمفروشات والستائر، الأحذية والملابس، يلبّي احتياجا أساسيا بالنسبة لي، لا أستطيع أن أعيش بدونه بالفعل، لأن بداخلي دافع دائم ومستمر للتعبير عن نفسي من خلاله. الحرية التي يمنحها لي لا توجد في أي وسيلة أخرى من طرق التعبير. لا ممنوعات ولا ضوابط اجتماعية أو غيرها في الفن. التعبير عن النفس، تسجيل اليوميات من خلال الفن، أو حتى فهم الأحداث الماضية واستكشاف تأثيرها على نفسي ووجودي الحالي”.
تترك سارة حياتها في اللوحات، بالأحرى تفاصيل صغيرة من حياتها اليومية، ألعاب طفولية وصور شخصية وأزرار وقصاصات من كتب وجرائد، كل تفاصيلها حيّة وتنبض في لوحات من الكولاج تحمل في النهاية هويتها، تسرح سارة لبرهة في لوحاتها وتقول: “تعرفين، الحرية التي تمنحها المساحة البيضاء، والقرارات اللا نهائية التي تمنحها تجربة الفن في كل خط أو مساحة أحاول استكشافها، تشبه تماما الحيرة التي تواجهني في القرارات الحياتية، ولحظة التنوير في اللوحة هي رديف لحظة التنوير في الحياة. الأمر يشبه تماما اليقين بأن كل شيء يمكن إصلاحه، كل طبقة على سطح اللوحة هي جزء مني أضعه على اللوحة، لذا ذاكرة اللوحة هي ذاكرتي، والعملية الفنية المستمرة هي حياتي، بغض النظر عن النتيجة النهائية لكل لوحة. السر في تلك العملية المستمرة التي تشبه الحياة تماما، وإدراكي لذاتي من خلال مراقبة الخطوط أو الدوائر أو الألوان على كل مساحة أعمل عليها، بالإضافة إلى تاريخي الشخصي الذي أدوّنه لنفسي على اللوحات”.
يعزز الفن والأدب قدرتنا على ولوج جلود الآخرين ويجعلنا أكثر تعاطفا مع الآخر ومشاعره، الأمر أشبه بقبس نور يكشف عتمة الإنساني بداخلنا. لا يساعدنا نمط الحياة المعاصرة على النظر إلى الآخرين، كلنا مشغولون بهمومنا الخاصة، تتحول الحياة من حولنا إلى خلفية نمطية ومتكررة ونحن أشبه بسجناء نتوارى في أجسادنا . يقول فان جوخ إن الفن يواسي مَن كسرتهم الحياة، وهو ما ذكرني هنا بلحظات شديدة الخصوصية والألم في حياة سارة عندما مد لها الفن يده.
أدركت سارة أن الفن هو ملاذها الوحيد الذي تستطيع أن تجده دائما ولن يخذلها أبدا، ولن ينشغل عنها، ولن يمل من تكرار شكواها
تتذكر سارة آلام الماضي وعثراته، تقول: “منذ ما يقرب من سنة أو أكثر، اكتشفت مرضي بمرض مزمن سيستمر معي طوال الحياة، مرض يجبرني على ابتلاع ما يقرب من خمسة عشر دواء بشكل يومي. في تلك المرحلة رافقني الفن، ساعدني على تفريغ غضبي وألمي وإحباطي على المساحات البيضاء بحرية. رافقتني حكاية فان غوخ ولوحاته، وحكاية فريدا كالو والألم الذي تحملته. رافقتني لوحات فرانسيس بيكون ولوسيون فرويد. كنت أصرخ وأبكي وأنهار على اللوحة، ربما كان ذلك الوقت هو الوقت الذي عدت فيه مجددا إلى الفن، بعدما ابتعدت عنه بسبب مشاغل وصعوبات الحياة اليومية.
في ذلك الوقت أدركت أن الفن هو ملاذي الوحيد الذي أستطيع أن أجده دائما ولن يخذلني أبدا، لن ينشغل عني، لن يمل من تكرار شكواي، بل بالعكس، في كل مرة يحول كل تلك التعقيدات بداخلي إلى إنجاز ألمسه. لوحة أستطيع أن أنظر إليها وأستكشف كل التغيرات التي حدثت لي في كل مرحلة”. لم يعالج الفن آلام سارة الجسدية، لكنه ساعدها على تبديل مفردات الألم بالانغماس في مساحات من الجمال تصنعها بيدها فتنتج فنًّا لتتنفس روحها من جديد.
نقول إن الزمن توقف بنا، ثم فجأة تهدأ الأصوات من حولنا وتنزع الأرض من تحت أقدامنا، لكن في حقيقة الأمر كل هذا لم يحدث، عقارب الساعة تتعاقب والأصوات من حولنا تتعالى وكل شيء يدور في فلكه الطبيعي والحياة تسير في إيقاعها اللاهث غير عابئة بالنشوة التي تسري بأجسامنا لأننا رأينا شيئا ما فنيا جميلا، جميلا للغاية، وكل ما يسعنا عمله في النهاية أن نخلق موسيقانا الخاصة التي تقودنا للسير في دروب الحياة، حينها سنتخفف من أثقال الحياة التي لم تكن لتهون سوى بسحب خفيفة تظللنا تحمل نغمات من الفن.
You must be logged in to post a comment.