هل يمكن أن تعالج اللوحات الفنية الأمراض؟
هل يمكن أن تعالج اللوحات الفنية الأمراض؟
“عزيزي ثيو، ما زلت مضطرا أن أطلب منك أن تحضر لي المزيد من فرش الرسم بأحجام
مختلفة، ست من كل حجم من فضلك، أتمنى أن تكون بخير وزوجتك أيضا وأن تتمتعا بالطقس الجميل. على الأقل هنا نملك ضوء الشمس الرائع. أما بالنسبة لي فإن صحتي على ما يرام، وبالنسبة لرأسي، دعنا نتمنى أن تتحسن، إنها مسألة وقت وصبر”.
يطلب فينسينت فان جوخ من أخيه ثيو، صديقه المقرب وتاجر اللوحات، في خطاب أرسله من مصحة سان ريمي، أن يرسل له أدوات رسم إضافية لكي يعمل على لوحاته، أودع فان جوخ نفسه في المصحة بشكل تطوعي بعدما أُصيب بنوبة هائلة، أشبه بانهيار تام، تسببت في حادثة قطع أذنه الشهيرة، ليس مؤكدا ما أثار ذلك الانهيار أو ذلك الفعل، يقال إنه كان عراكا مع رفيقه في السكن الفنان الفرنسي بول جوجان، يقول مؤرخون آخرون إن سبب ذلك هو معرفته بخبر زواج أخيه ثيو، أقرب شخص له في العالم، مكث في المصحة لمدة عام، وكانت تلك من أثرى فترات حياته من ناحية الإنتاج الفني، ترك 142 لوحة زيتية بالإضافة إلى مئات الرسوم التخطيطية، بعضها مرفق بخطاباته لأخيه وأخته وغيرهم.
ارتبط اسم فان جوخ بمرض الاضطراب ثنائي القطب، وهو مرض نفسي معقد تم التعرف عليه حديثا، لكن لا يوجد ما يُثبت اسم ما كان يُعاني منه بالضبط، فيذهب البعض بتعريفه على أنه صرع، وغيره من الأمراض الجسمانية العصبية، لا يوجد ما يُثبت شفاءه من المرض أيضا، أو إذا كان قابلا للشفاء من الأساس، لكن شغفه الأول ومحرك حياته، أي الفن، ساعده على النهوض بعد عثرات عديدة، وبث فيه نوعا من قوة المقاومة والتمسك بالحياة لآخر لحظة، أو حتى لحظة الاستسلام، لم يشفه الفن من مرضه، ولم يمنع عنه نوبات جعلته مقعدا تماما لا يقوى على شيء، لكن عندما كان يستفيق كانت لوحاته هي ما يشغله ويُبقي عقله يقظا ويريه الجمال في كل ما حوله.
تتردد دائما عبارات مثل قدرة الفن على العلاج، يحدث ذلك بشكل منهجي أحيانا، وأحيانا أخرى يكون وسيلة لكسب الأموال وإيهام المرضى أن تفريغ طاقاتهم على الأوراق سوف يشفيهم، لكن الموضوع ليس بتلك البساطة، فيمكن تقسيم ذلك المفهوم إلى شقين، فنانون يعانون من أمراض معينة يساعدهم فنهم في التعامل معها، وتقنيات علاجية ممنهجة يعرضها الأطباء على المرضى الذي لا يملكون بالضرورة مواهب فنية كطريقة بديلة وغير معتادة في العلاج وفي التشخيص أحيانا.
كيف يتعامل الفنانون مع أمراضهم؟
“أكافح الألم والقلق والخوف يوميا، والطريقة الوحيدة التي وجدتها لتهدئة مرضي هي أن أستمر في صنع الفن، لقد تتبعت خيط الفن وبشكل ما وجدت طريقا مكنني من الحياة”
بدأت يايو كوساما في السابعة من عمرها سماع أصوات ثمرة اليقطين والزهور والكلاب تتحدث معها، رأت هالات مضيئة ولامعة حول الأشياء، عندما حدثت لها تلك الحوادث كانت تهرع إلى المنزل وتسجل بالرسم ما رأته وما سمعته في دفتر صغير، فعل ذلك كان يخفف من وطأة الخوف، ومثّلت تلك الرؤى والمخاوف أساس فنها.
ولدت يايو كوساما في بلدة صغيرة تُسمى ماتسوموتو في اليابان في عام 1929، أحبت الفن من صغرها، وشجعها والدها بشراء الأدوات اللازمة للرسم والتلوين، لكن لم تتفق معه والدتها فمزقت لوحاتها وأعمالها، بدأت تظهر عليها أعراض فصامية وأعراض نفسية مختلفة، مثل اضطراب القلق العام، والهلاوس السمعية والبصرية في سن صغيرة، احتُجزت أكثر من مرة في مصحات نفسية متعددة، لم يكن لها ملاذ إلا التعبير عن مخاوفها بفنها وموهبتها، تخطت الوسائط المعتادة مثل الرسم والتصوير وتوسعت إلى وسائط أكثر معاصرة، فعن طريق وسيط مثل التجهيز في الفراغ، وهو وسيط فني لا يتحدد بلوحة أو إطار، فحدوده من الممكن أن تكون غرفة كاملة، وفي حالة كوساما فإن التجهيز في الفراغ يسمح لها ببناء غرفة داخل عقلها، فيمكنها أن تتجول فيها وتتفحصها وكأنها تُفرغ مخاوفها داخل مساحة محددة.
من أشهر تلك الأعمال عمل بعنوان “المرآة الأبدية”، وهي تجهيز في الفراغ يحوي عددا هائلا من المرايا، عندما يخطو المتلقي داخله يرى نفسه مكررا عددا لا نهائيا من المرات، ففكرة التكرار والأنماط كانت تفتن كوساما وتساعدها على التخلص من قلقها، كررت فكرة المرايا أكثر من مرة، أحيانا تضع بها يقطينات مضيئة مثل التي يُصوّرها لها عقلها، وعناصر مختلفة أخرى تُمثّل هواجسها، وتسمح للمتلقين بشكل مجازي بأخذ جولة داخل عقلها، أن يروا أنفسهم منقسمين ومفتّتين عددا لا نهائيا من المرات، مثلما تشعر هي، لم تتعافَ يايو حتى الآن، تمر بنوبات شديدة وتُنقل للمصحة أحيانا، لكنها وجدت طريقتها في التعامل مع مرضها بتضفير فنها مع حياتها.
“منذ بدأت أن أتذكر وأنا أعاني إحساسا عميقا بالقلق، وهو ما حاولت أن أعبر عنه في فني“
يعرف الجميع إدفارد مانش بلوحة “الصرخة”، والتي تُصوّر رجلا يقف على جسر وكأنما استوعب فجأة ثقل ورعب الحياة وبدأ يصرخ، وفي خلفيته سماء استحال لونها إلى لون الدماء، في حالة مانش فإن محاولة التعامل مع المرض النفسي من خلال الفن يحمل أكثر من مستوى، فمعاناته هي مزيج من القلق الداخلي والعام.
يُعتبر إدفارد مانش من مؤسسي الحركة التعبيرية في الفن، وهي حركة نبذ فيها الفنانون الواقعية واهتموا بكشف دواخل الإنسان من قلق وجودي ومشاعر متضاربة، تلك المفاهيم كانت أساسية في فترة بعد ما بعد الحرب العالمية الأولى، فالخسائر كانت فادحة على المستويات القومية والشخصية، وفي وسط كل ذلك يوجد مانش محملا بويلات الحرب، وارتباك الحداثة، وطبيعة الحياة الجديدة التي تتسم بالوحدة، بالإضافة إلى هواجسه الشخصية، فقد حاوطه المرض طوال حياته، اختبر في فترات مرض أمه وأخته، وترك ذلك في نفسه أبلغ الأثر، لكن لم يكن فقط مرض من يحب هو ما يقلقه، لقد عانى معظم حياته من أعراض الاكتئاب والقلق، وبعض الهلاوس البصرية، والأفكار الانتحارية المستمرة، لذا كان فن مانش انعكاسا لنظرته للعالم، وليس وسيلة للعلاج، يُمثّل الخوف الذي اختبره طيلة حياته جزءا أساسيا من ذلك الفن.
هل يساعد الفن غير الفنانين؟
لكن ماذا عمن يعانون الاضطرابات لكنهم ليسوا موهوبين أو فنانين؟ هل يستطيع الفن علاجهم أو تقديم المواساة لهم، وهل يمكن اعتباره وسيلة علاجية بشكل رسمي أم هي مجرد اجتهادات شخصية أو مصادفات سعيدة؟
يمكن في البداية إزالة اللبس في المصطلح نفسه “العلاج بالفن”، فمن الممكن أن يعني طريقة للعلاج عن طريق العملية الإبداعية نفسها، أو استخدام ما ينتجه المريض من أعمال فنية للتحليل النفسي، أطلق الفنان البريطاني أدريان هيل المصطلح أول مرة في عام 1942، فأثناء تعافيه من مرض السل، وجد عزاء كبيرا في ممارسة الرسم والتصوير، وقرر أن لهذا قيمة علاجية حقيقية من منطلق أن فعل الرسم يشغل العقل بشكل كامل مع الجسد، فأصابعك تتحرك، وعقلك يُركّز على إنتاج شيء محدد، ويساعد ذلك على إطلاق الطاقة، أقنع هيل زملاءه المرضى بممارسة الفن وقت تعافيهم، وأسفرت تلك الفترة عن كتابه “الفن ضد المرض” الصادر عام 1945، إذن يعتبر العلاج بالفن مفهوما حديثا نسبيا، فهل كانت له جذور قبل ذلك؟
“لقد وصلت إلى درجة أنني استطعت ترجمة مشاعري إلى صور، أو بقول آخر إيجاد الصور التي كانت مختبئة داخل تلك المشاعر جعلني أكثر ثقة وهدوءا، إذا تركت تلك الصور مخبأة
لكانت مزقتني إلى أشلاء“
في أوائل القرن العشرين عندما كان علم النفس يخطو خطواته الأولى لكي يصبح علما مكتوبا ومعترفا به، كان أكبر أساتذته على خلاف كبير، سيجموند فرويد وكارل يونج، بعد فترة من الصداقة والشراكة العملية فرقتهما وجهات النظر والمرجعيات العلمية، أثّر ذلك في كارل يونج بشكل خاص، فقضى فترة سمّاها البعض انهيارا نفسيا كاملا، لكن ذلك الانهيار فجّر له ينابيع من الإبداع، فأصبح ينخرط في نشاط ليلي من تخيل الرؤى والصور، في البداية كانت تعذبه تلك الصور، لكن حالما بدأ في تدوينها وتشكيلها على الورق، وجد طريقته في التحكم بها، جمع يونج تلك التجارب العقلية الروحانية في كتاب جلدي ذي غلاف أحمر بين عام 1915 و1917، ولم يتم نشره أو التعرف على تلك التجارب إلا منذ وقت قريب في عام 2009 وتم تسميته “الكتاب الأحمر”.
هل يعالجنا رسم الماندالا؟
“قابلت أحد الناسكين في معبد بالهند، شرح لي ما الماندالا، وكيف أنها تتكوّن من صور عقلية تنفذ كليا من خلال قوة الخيال، ولا توجد واحدة أبدا مثل الأخرى“
من تجارب يونج التي تتخطى العلم إلى الروحانية والفن هي رسم الماندالا، وتعني بشكل حرفي “دائرة” في الهندية، وهي طقس روحاني في الديانة الهندوسية والبوذية، وتُمثّل مركز الكون والتكامل، والوصول إلى مكان مقدس من خلال التنفيذ العملي والتأمل العقلي، لكن بمرور الزمن أصبح لفظ ماندالا يُطلق على أي رسم دائري يحوي أنماطا متكررة، استخدم يونج الماندالا كمحلل نفسي لتشخيص مرضاه، يرى أن رسم أنماط متكررة بشكل دائري وإعمال الهواجس والخيال للإتيان بها يسمح للمريض الوصول إلى حالة من الاتزان النفسي والعقلي.
يتم الآن الترويج للعلاج بالماندالا لكن بشكل أكثر سطحية، فتُباع كراسات التلوين للكبار وما عليهم إلا ملء الفراغات بالألوان لأشكال مرسومة إلكترونيا ومطبوعة سابقا، ففكرة الخيال ومحاولة الوصول لحالة ذهنية عُليا تم انتفاؤها عن فكرة العلاج بالفن بشكله المعاصر، لكنه يملك القيمة الأساسية، وهي إشغال اليد والعقل وانغماسهم في عمل مُرضٍ جماليا، فلا يجهد الشخص نفسه بالتفكير السلبي إذا كان سليما، ولا يستسلم تماما للأفكار السوداوية إذا كان مريضا.
لكن لا يزال التعبير بالرسم يُستخدم في جلسات العلاج النفسي، لا يمكن الجزم بدقة التشخيص، لكن أحيانا تخذلنا الكلمات، وتتسارع في عقولنا الصور، وبإفراغها وجعلها مرئية يمكن للمحلل النفسي أن يستنبط منها دلائل تساعده على التشخيص، وتترك الممارسةُ المريضَ في حالة أفضل إذا نجح في التعبير عن مكنوناته بشكل بصري.
مثل أي تجارب في العلاج النفسي والبدني، تظل النتائج نسبية نظرا للتنوع الهائل في طرق التفكير البشرية وإمكانية الاستجابة، سواء كان الممارس للفن فنانا في الأساس صادف أنه يعاني اضطرابا أو مرضا ما، وساعدته موهبته على التعامل معه أو فشل في النهاية في تخطيه، أو كان الممارس للفن شخصا لا علاقة مباشرة له به، ولكنه يحاول أن يجد ملاذا بإشغال عقله والشعور بالرضى أو بتفريغ الطاقة بشكل ما، يمكن لذلك أن ينجح مع بعض الناس، ويمكن أن يراه الآخرون محض هراء، فالعقول والأجساد تستجيب للعلاجات الكيميائية بدرجات متفاوتة، فماذا إذا كانت محاولات العلاج هي ممارسة غير طبية ذاتية تماما.